الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الماوردي: قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}، {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} أي خلقنا ممن يصير إلى جهنم بكفره ومعصيته.و{كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فيه قولان:أحدهما: أراد أولاد الزنى لأنهم من النطف الخبيثة مخلوقين، فهم أكثر الناس إسراعًا إلى الكفر والمعصية فيصيرون جامعين بين سوء المعتقد وخبث المولد.والقول الثاني: أنه على العموم في أولاد الزنى والرِشدة فيمن ولد من نكاح أو سفاح لأنهم مؤاخذون على أفعالهم لا على مواليدهم التي خبثت بأفعال غيرهم.{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الحق.{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الرشد.{وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} الوعظ، فصاروا بترك استعمالها بمثابة من عَدِمها، قال مسكين الدرامي:. اهـ. .قال ابن عطية: قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس}.خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيرًا، وفي ضمنه وعيد للكفار، وذرأ معناه خلق وأوجد مع بث ونشر، وقالت فرقة اللام في قوله: {لجهنم} هي لام العاقبة أي ليكون أمرهم ومئالهم لجهنم.قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وهذه اللام مثل التي في قوله الشاعر:وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم جهنم، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم ثم أسند فيه حديثًا من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {كثيرًا} وإن كان ليس بنص في أن الكفار أكثر من المؤمنين فهو ناظر إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله لآدم أخرج بعث النار فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة».وصفت هذه الصنيفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه، والفقه الفهم، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول: فلان أصم عن الخنا.ومنه قول مسكين الدارمي: [الكامل أحذ مضمر] ومنه قول الآخر: [الوافر] ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك: [مخلع البسيط] فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم {لا يفقهون} و{لا يبصرون} و{لا يسمعون} وفسر مجاهد هذا بأن قال: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق، و{أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع، ثم حكم عليهم بأنهم {أضل}، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقًا في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا، ثم بين بقوله: {أولئك هم الغافلون} الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير. اهـ. .قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {ولقد ذرأنا} أي: خلقنا.قال ابن قتيبة: ومنه ذرية الرجل، إنما هي الخلق منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب.قوله تعالى: {لجهنم} هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة، كقوله: {ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8] ومثله قول الشاعر:ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزِّيه بموت ابنه، فقال: وقد أخبر الله عز وجل في هذه الآية بنفاذ عِلمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم.قوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} لمّا أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يُبصر ولم يسمع.وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا كله أمر الآخرة، فانهم يعقلون أمر الدنيا.قوله تعالى: {أولئك كالأنعام} شبَّههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر، ولا تعتبر، ثم قال: {بل هم أضل} لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند، فيُقدِم على النار، {أولئك هم الغافلون} عن أمر الآخرة. اهـ. .قال القرطبي: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}.أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلًا بعدلِهِ، ثم وصفهم فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} أي بمنزلة من لا يفقه؛ لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يعقلون ثوابًا ولا يخافون عقابًا.و{أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الهدى.و{آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} المواعظ.وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة كما بيناه في البقرة.{أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأنهم لا يهتدون إلى ثوابٍ، فهم كالأنعام؛ أي هِمتهم الأكل والشرب، وهم أضل لأن الأنعام تُبصر منافعها ومضارها وتتبْع مالكها، وهم بخلاف ذلك.وقال عطاء: الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه.وقيل: الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع.{أولئك هُمُ الغافلون} أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار. اهـ..قال الخازن: قوله سبحانه وتعالى: {ولقد ذرأنا} يعني خلقنا {لجهنم كثيرًا من الجن والإنس} أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيرًا من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قال: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم أخرجه مسلم.قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه لي مكلفًا وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.وأجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى الله عليه وسلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة: إني لأراه مؤمنًا فقال: «أو مسلمًا» الحديث، ويحتمل أن صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعًا لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم.وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيرًا من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله، وقيل: اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} يعني: لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علمًا على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله {ولهم أعين لا يبصرون بها} يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده {ولهم آذان لا يسمعون بها} يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني: إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه.ولما وصفهم الله بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر:فإنه أثبت له صممًا مع وجود السمع.قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق.ثم ضرب لهم مثلًا فقال سبحانه وتعالى: {أولئك كالأنعام} يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع.وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئًا ثم قال تعالى: {بل هم أضل} يعني: بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرق ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعطَ القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالًا من الأنعام.وقيل: إن الأنعام مطيعه لله والكافر غير مطيع لله، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى: {أولئك هم الغافلون} يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم. اهـ.
|